14/09/2023 - 08:56

إلى رفيق التاسع من شهر آب | نصّ

إلى رفيق التاسع من شهر آب | نصّ

إستنبول | سامي أكسو

 

إلى رفيق التاسع من شهر آب؛

تحيّة معطّرة برائحة الحرّيّة وحبّ البلاد، أمّا بعد؛

 

فما زال لديّ الكثير لأقوله لك، رغم أنّني وقعت في حبّ لحظات الصمت بيننا، لكنّها تركتني ملأى بالكلمات والأحاديث الّتي أجريها اليوم وحدي، بيني وبين نفسي. أفكّر في تلك اليارا، الّتي بدت مدلّلة حدّ التعب من جولة قصيرة في حيّ إستنبوليّ صغير، والّتي تتكلّم كثيرًا عن والديها اللَّذَيْن لا يتنازلان عن الاعتناء المفرط بها، حتّى يبدو أنّ الله نفسه بعزّه وجلاله ليس يتنازل عن حراستها حراسة مشدّدة؛ فمنذ صغري، جميع غرف نومي كانت غرفًا محميّة، أو بكلمات أكثر وضوحًا: غرف ملاجئ. في الطابق العلويّ في منزل العائلة، ثمّ في الطابق السفليّ، ثمّ في شقّتين سكنيّتين استأجرتهما في حيفا، شاء حظّي أن تكون الغرف المحميّة من نصيبي، وإن لم تكن غرف ملاجئ فمخازن. نعم، غرف لتخزين الأغراض القديمة أو غير المهمّة أو المؤجّلة الاستعمال، قد تصبح في يوم وليلة غرفة نوم. نومي أنا. قال لي أبي يومًا ممازحًا: يصرّ الله على حمايتك. فأجبت: كان بودّي أن يفعل ذلك بطرق أخرى فيحميني من مشقّات الحياة لا من هدوء الموت. أيّ ابنة تنطق بجملة دراميّة تعيسة كهذه أمام أبيها الّذي يفعل كلّ ما بوسعه لإسعادها! قد ينهش الغباء السوداويّ قطعة من وعينا فجأة، ويتركنا بربع عقل أمام أحبّتنا.

هل يخيفك الموت؟ اعتدت أن أفزع من مجرّد التفكير فيه؛ حتّى أدركت أنّني لا أخاف موتي بل موت مَنْ أحبّ، وأنّني ورثت الخوف من الموت من أمّي الّتي فقدت والديها في صغرها، ولم يتوقّف حزنها وبكاؤها عليهما وعلى نفسها حتّى هذه الساعة. أيعشّش الحزن في مسامات جلودنا أم نقصد نحن التشبّث به تشبّثنا بالشخص الّذي رحل؟ أعتقد أنّ أمّي تأبى التخلّي عن حزنها لأنّه الشيء الوحيد الّذي خلّفته أمّها لها بعد رحيلها الأبديّ. هي لا تعلم أنّها أورثتني ذاك الحزن تمامًا كما أورثتني خوفها من الموت.

ما زال حديث غير منتهٍ بيننا عن حيفا وكفر كنّا. لم أخبرك كفاية عن كليهما، وعن بحثي المستمرّ عن وطن، أو الوطن، داخل هذا الـ ’وطـن‘ مقطَّع الأوصال، ولا عن انتزاع نفسي من بيت والديّ؛ لأكون البطلة الّتي أنقذت دماغها وقلبها من عناء الإفراط في كلّ شيء. ليس من الغريب أنّ مَثَلي المفضّل هو "كلّ شيء زاد على حدّه نقص". هل توافق هذا المثل؟ قد يصبح الإفراط في الحبّ سجنًا، وفي الإطعام تنفيرًا، وفي الاهتمام خنقًا، وفي الحزن قتلًا غير متعمّد، وفي الحماية حبًّا خانقًا. إلى أين غير حيفا؟ إلى أين نهرب في هذا السجن الكبير؟ كيف نحافظ على مسافة آمنة بيننا وبين بيتنا الأوّل، إن لم يكن في مدينة لا تبعد أكثر من 45 مترًا إلّا بقليل؟ نترك قرانا المزدحمة بحثًا عن مكان يتّسع لفضولنا، نسعى فيه وراء لملمة الأجزاء الّتي لم نتمكّن من استكشافها، أو الّتي اضطررنا إلى بترها، أو شككنا في شرعيّة وجودها فينا فنبذناها. أيُعْقَل مثلًا أن تكون الرغبة في العمل ابنة غير شرعيّة لعلاقة حدثت بين عصرنا الحديث وفتاة عشرينيّة طموح؟ وأن يكون الحلم بالاستقلاليّة في سنّ السادسة والعشرين ابنًا غير شرعيّ آخر؟

قلتَ إنّك لا تعرف شيئًا عن كفر كنّا، وأحسّ أنّني أنا الّتي لا تعرف عنها شيئًا. حتّى أنّني لم أفطم نفسي عن استخدام تطبيق «ويز» داخل معظم شوارعها إلّا مؤخّرًا، ولست أعرف بعد أسماء جميع حاراتها، أو حتّى وجوه غالبيّة سكّانها وأسماءهم. وهذه في حدّ ذاتها مصيبة. مصيبة اللاانتماء. قريتي، قانا الجليل، ذُكِرَتْ في العهد الجديد، يُقال إنّ السيّد المسيح قد صنع أولى عجائبه فيها؛ صيّر الماء نبيذًا بعد أن نفد النبيذ في عرس أحد الشبّان. أمّا في هذه الأيّام فالشبّان يصيّرون الماء خمرًا في التلال، تحت القمر، بين الشجر، وفي المُغَر. يتركون وراءهم الزجاجات الفارغة وبقايا الطعام والأكياس والكوندومات. يطلقون الرصاص خاوة، يقودون السيّارات الفخمة ذات الفرقعات الأكزوزتيّة خاوة، تطول أسلحتهم فتاة أو طفلة بالخطأ خاوة، يبدؤون شجارًا خاوة. تعود بي ذاكرتي الآن إلى أيّام المدرسة الثانويّة خارج القرية، حيث تفادى أبناء صفّي مجادلتي لأنّني كنّاويّة. لم أكن أنزعج في الحقيقة، بل كنت أحسّ بالهيبة. أمّا المرّة الأولى الّتي انزعجت فيها فكانت حين علمت بتراجع أحد أُعْجِبْتُ به عن البوح بإعجابه بي لأنّه خاف كنّاويّتي. ما حاجتي إلى شابّ يخاف هويّتي على كلّ حال؟

 رغم كلّ ذلك، بدأت أصحو إلى تعلّقي بكفر كنّا حين ابتعدت عنها، فتفرّعَت سبل الاشتياق إليها. أنا أحبّ حارتي، ومغرمة بذكرياتي الطفلة فيها، وبالمساحة الشاسعة الّتي توفّرت لي؛ للعب والقفز، والغناء، والركض، والرسم بالطباشير، وتصويب البنانير. كنت منتمية انتماء كلّيًّا إلى حارتي بالذات، وخروجي منها كان يعني، بالنسبة إليّ، سفري خارج البلاد. حارتي، في طفولتي، عنت لي البلاد كلّها. مع الوقت، ضخمت أحلامي، ضاقت الحارة ومعها القرية. باتت كفر كنّا تشدّ حول عنقي حبل المستحيل والبعيد وغير المتاح. إلى أن أفهمتني حيفا، وذكريات جدّتي وجدّي، أنّ ضحايا الاستعمار قد تعدّت البشر إلى شكل البيوت، والعلاقات، والحارات والشوارع والأزقّة، والمدارس والمناهج، والفرص، وأنّ كفر كنّا قرية ضحيّة، لم تكن تعرف القتل والسلاح والتعصّب والطائفيّة والتفكّك والعدائيّة. كيف لا تصل بلادنا إلى كلّ هذه الفوضى بعد 75 عام من الاستعمار المكانيّ والذهنيّ، والتمييز العنصريّ، والإهمال المقصود، والتهميش؟

مجرّد التفكير في هذا يشعرني بالشفقة علينا ويوجع قلبي. لست أتوقّف عن التفكير في ترك البلاد في العام الأخير. هل تستحقّ بلادنا أن نتركها؟ هل نستحقّ نحن أن نتمسّك بأوجاعنا؟ أعلم أنّني مثل كلّ المهاجرين واللاجئين والباحثين عن أوطان بديلة، ومثلك أنت، إذا خرجتُ من البلاد، فسأحمل البلاد في داخلي، بأفراحها وأحزانها، وأحمالها وأحلامها، وأوجاعها، وغربتها وأُلفتها، وزيتونها وزعترها، وعودتي. على سيرة الزيت والزعتر، لن أصادف يومًا طعامًا يتفوّق على أطباقنا الفلسطينيّة، أنا متأكّدة.

وعلى سيرة الأوطان البديلة، تحمل ذاكرتي الضيّقة سطرين شعريّين من قصيدة «لي قارب في البحر» لمريد البرغوثي، يقول فيهما: "صرتُ التبعثر في البلاد، وكثرة الأوطان تعني قلّة الوطن". التصقت هذه الكلمات في ذهني منذ استمعت للمرّة الأولى إلى تسجيل القصيدة بصوت الشاعر، قبل سنتين. ألا تشبهنا هذه القصيدة كثيرًا؟ لا يمرّ يوم إلّا وأتذكّر بعض أجزائها. يقول مريد في سطرين آخرين: "يتثاءب التاريخ في هذي البلاد/ كأنّه ملّ الحكاية كلّها". أنا، مثل ذاك التاريخ، مللت الحكاية كلّها، وأودّ لو أُفرغ ذاكرتي تمامًا إلّا من حكايات ما قبل النوم، الّتي كان يرويها لي أبي.

أثناء سيرنا في إحدى حارات إستنبول، وجدت نفسي أعترف بصوت عالٍ: "إذا شي يوم تركت هديك البلاد المنكوبة، بدّي أنساها ومَأَتابعِش أخبارها". ولأنّنا نكبر والتناقضات معًا داخل هذه البلاد المنكوبة؛ فقد قلت ذلك بعد دقائق من التعبير عن فرحتي بأنّني أستطيع قول ’فلسطين‘ بملء فمي، ودون خوف هناك. يبدو أنّني أتحدّث بحرّيّة عن وطني فقط حين أكون في الغربة. نعم، مللت الحكاية كلّها، لكنّنا نقع في حبّ المألوف. ونحن شعب قد ألفنا المآسي؛ هي تجذبنا ونحن نجتذبها، حتّى صرنا نجد صعوبة في الابتعاد عنها. لا تعاتبني على هذه الجملة الأخيرة. فكّرت في محوها لكنّني تراجعت.

في إستنبول، لفتت نظري ألوان الملابس الفاتحة. لا أذكر إن كنت قد شاركتك في ذلك. يصرّ الناس في فلسطين على ارتداء الألوان الداكنة، ويستغربون الألوان الفاتحة، حتّى أنّ معظم الّذين أعرفهم يدينون مَنْ يرتدي الألوان الفاتحة بعدم النضوج أو الجنون أو الميوعة. هناك، مِلْتُ إلى ارتداء الألوان الفاتحة تلقائيًّا. وتساءلت كثيرًا: ما الّذي يدفعنا، نحن أبناء فلسطين وبناتها، إلى تفضيل ارتداء الملابس الداكنة اللون؟ هل هي مأساتنا المستمرّة؟ حزننا القابع في زوايا قلوبنا منذ سنين؟ حاجتنا إلى التخفّي؟ تساءلنا؛ صديقتي علا وأنا، عن جماعات الشباب الّذين لا يرتدون إلّا ملابس سوداء، ويمضون أوقاتهم متجمّعين عند حافّات الطرقات: أتعبّر ملابسهم عن ميلهم إلى الغموض أم عمق المعاناة؟ ما سرّ نزعتنا إلى عيش حياة الخفافيش حتّى في وَضَح النهار؟

لفت نظري أيضًا بيوت القطط الإستنبوليّة، الموضوعة في الشوارع الفرعيّة، ومدى اعتناء الناس بالقطط. أستحتضن تركيّا قطط بلادنا إذا ما لجأتْ إليها يومًا، أم ستروّج الحكومة فكرة دونيّتها مقابل القطط التركيّة؟ ما علينا، أحببت جدًّا عادة إطعام القطط وسقيها، لكنّني تألّمت لرؤية الكلاب المستلقية في الشوارع. أخبرني أصدقائي أنّها كلاب مخدَّرة، وأنا ما زلت أواسي نفسي في أنّها، على الأقلّ، ليست تجوب الوعور بأجساد هزيلة بحثًا عن غذاء مثل الكلاب المشرّدة في كفر كنّا. أمّي، على سبيل التفاصيل الزائدة، تذهب لإطعام تلك الكلاب الجائعة كلّما استطاعت، وتحمل معها إلى العمل طعامًا للقطط. لم أخبرك أنّ أمّي قد أورثتني الحبّ بكلّ عظمته أيضًا. وكما غنّت أمّ كلثوم: "في الدنيا مفيش أبدًا أبدًا أحلى من الحبّ"؛ فكيف عسانا أن ننجو في هذي البلاد دون حبّ؟

انشغلت في الحديث عن كفر كنّا، ولم أذكر حيفا إلّا قليلًا. أتذكّر الآن حديثنا عن المدن الكبيرة، وسكّانها الّذين يقصدون البقاء قرب النوافذ، وأفكّر في أنّ نوافذ شقق حيفا السكنيّة تبقى مشرَعة أيضًا. ربّما، كما قلتَ، يفعل الناس ذلك كي يؤنسوا وحدتهم، أو كي يكونوا مرئيّين في مدينة مكتظّة تفرض عليهم الفردانيّة، أو أنّهم لا يبالون بإغلاقها فحسب. كلّ شيء في المدن مختلف؛ سلوك الناس، معنى الخصوصيّة، البحث الدائم عن مساحة شخصيّة، وحتّى الحاجة إلى إثبات الحضور. كأن تجلس جارتك على الجانب الأيمن من شرفة بيتها كي تنبّهك إلى حضورها، ولتقول لك: "صباح الخير"، فتنسى أنّها واحدة من بين مليون إنسان يبحث عن رفيق، ويودّ لو يصرخ: "أنا هنا".

لا أعلم إن كنت ستقرأ رسالتي يومًا ما، لكن إذا فعلت فاقرأ من بعدها قصيدة إيليّا أبو ماضي «وطنَ النجوم، أنا هنا».

 

محبّتي

رفيقة التاسع من آب.

 


 

يارا أبو داهود

 

 

 

معلّمة للّغة الإنجليزيّة وطالبة ماجستير في اللغة العربيّة.

 

 

 

التعليقات